الفصل الثامن..
بعد مرور شهرين..
هدت الأحوال نوعا ما في البلدة لكنها لم تخلو من زيارات هارون المتكررة لمنزل صفوان و طلبه الملح في الزواج من فاطيما و هي مازالت على موقفها لم يتغير.
في حديقة المنزل…
اجتمع الصغار يلعبون و يمرحون كعادتهم وهي مازالت تتجنب الحديث معهم إلا للضرورة القصوى لكنها اليوم عزمت على تنفيذ ما تريد فتلك ورقة ضغط أخرى عليهم.
قامت بتحضير عصير طازج للصغار و خرجت إليهم في الحديقة و طلبت منهم احتساءه فلبوا طلبها بسعادة بينما هي تراقبهم بابتسامة لاتبشر بالخير أبدا.
و قبل الفجر بساعة دوت صرخات الصغار في المنزل في نفس اللحظة يبكون وهم يمسكون بطونهم من شدة الألم، و النساء يبكين لا يعرفن ماذا يفعلن في هذا الوقت المتأخر و الرجال يحاولون الاتصال بالإسعاف دون فائدة كأن خطوط الاتصال قطعت جميعها و انعزلوا عن العالم.
يحاولون جاهدين إنقاذ صغارهم و حرارة أجسادهم ترتفع بشكل مخيف و العرق يتصبب من أجسادهم الصغيرة التي أصبحت هزيلة في ثوان معدودة، في نفس اللحظة دق جرس الباب لتفتح روايح فإذا به هارون نفسه حضر في هذا الوقت المتأخر و الفجر لم يتبقى عليه سوى ساعة واحدة.
ركضت روايح تخبرهم بوجود زائر يريد رؤيتهم لأمر هام لكنهم لم يكونوا في وضع يسمح لهم بالجدال أو استقبال أحد فما هي إلا ثوان ووجدوه يقف بينهم يخبرهم أن شفاء الصغار و علاجهم بين يديه. لم يستوعبوا كيف تجرأ ودخل عليهم الغرفة و في هذا الوقت أيضا؟
كيف عرف بما يدور في المنزل؟ هل اتصلت به فاطيما لتخبره بما حدث؟ كيف و الاتصالات مقطوعة عن المنزل؟
” متفكروش كتير الوقت بيعدي بسرعة لو خايفين على ولادكم صحيح هعالجهم ولو مش عاوزين همشي.. قولتوا إيه؟ ” الآن ألقى الكرة في ملعبهم و عليهم اتخاذ القرار فحياة صغارهم على المحك. فلم يكن من أسماء و صفية و عنايات إلا الموافقة دون تفكير فكل شيء يهون أمام حياة فلذات أكبادهم كذلك عنايات تعشق الصغار حتى إن لم تنجبهم.
طلب من الجميع الخروج من الغرفة و تركه وحده مع الأطفال.. صحيح أنهم رفضوا بنظراتهم المستنكرة لكن ما باليد حيلة. ينقذهم أولا و لكل حادث حديث.
خرج الجميع و تركوه مع الأطفال و لم يمر سوى عشر دقائق فقط لكنها كانت كالدهر بالنسبة لهم ليهدأ الصراخ ويتحول إلى ضحكات و لهو في الغرفة!! لم يتمالكوا أنفسهم و فتح الباب بغتة ليجدوه يقف في منتصف الغرفة و الأطفال حوله يمسكون بجلبابه و هو يمسح بيده على رؤوسهم و يبتسم لهم، وبين فرحة الأمهات و سعادتهم بإنقاذ أطفالهم و التفاف الرجال حولهم كانت هي تقف و تنظر إليه بابتسامة منتصرة وهو يرد عليها بإماءة من رأسه .
خرج من الغرفة و قبل أذان الفجر بدقائق اختفى من المنزل كأنه لم يكن، بحثوا عنه ما من أثر له.. كيف دخل الغرفة و كيف خرج من بينهم دون أن يشعروا به؟ ذلك الرجل يثير ريبتهم.
بعد أدائهم صلاة الفجر…
سأل صفوان شقيقته التي تخلفت عنهم و لم تعد تصلي فروضها ” مصلتيش معانا لسه يا فاطيما؟ إنتي بقالك فترة مبتصليش معانا الفجر.. خير في حاجة؟ ” كان سؤاله مباشرا و هو ينظر في عينيها لكنها هربت من الإجابة وهي تشعر بالتوتر و كانت إجابتها أنها دوما ما يغلبها النعاس ولا تسمع الأذان… لكن صفية أشارت له برأسها أن أخته لاتقول الحقيقة. فاكتفى بالنظر إليها صامتا و انصرف عنها.
ذات اليوم ظهرا…
حضر هارون إليهم ولكن هذه المرة لم تكن كسابقتها فقد اشتغل الوضع بينهم و كاد فضل أن يلقي به خارج المنزل لكن صفوان و حسان منعاه عنه…
ليهم بالرحيل من المنزل لكنه ترك رسالة تهديد صريحة ” إما جوازي من بنتكم أو الخراب الي يحل على البلد كلها…” وانصرف عنهم دون كلمة أخرى. جلسوا يتشاورون فيما بينهم كيف الخلاص من هذا الرجل الذي حل بالخراب عليهم؟ ما السبيل لذلك؟.
و قبل أن يجدوا حلا كانت الكارثة الجديدة قد حلت على البلدة فهناك غريق آخر هذه المرة ليركض الجميع للشاطئ لمعرفة هوية صاحب الجثة التي تم انتشالها من المياه. صدمة أخرى تحل عليهم فلم يكن سوى ذلك الشاب اليتيم ” مرعي”!!
مرعي ذلك الشاب الطيب الذي عاش وحيدا و رحل دون ذنب هو الآخر..
اتشحت النساء بالسواد و كسى الحزن وجوه الجميع، الأرض الزراعية لم تعد تؤتي محصولها و انتشرت حالات الاختفاء فجاة يليها ظهور الجثة طافية على وجه الماء.. غادرت السعادة عيونهم كأن لعنة سوداء ألقيت عليهم تقف حائلا بينهم وبين حياتهم السابقة ذات الأيام السعيدة و البال المرتاح.
أرض المشغل لم تسلم من الأذى الذي طال البلدة أيضا فقد احترقت محتوياته دون سبب أيضا، لذا لم يعد هناك مفر من الموافقة على طلب ذلك الشخص الذي حل عليهم كغراب أسود ينعق بالحزن و الدمار أينما وطأة قدماه.
اتفق الأشقاء الثلاثة على تلبية طلبه لكنهم ما زالوا في حيرة من أمرهم هل موافقتهم تعني انتهاء الخراب الذي حل على الجميع أم أنها البداية فقط؟
لحظات و كانت روايح تخبرهم بوجود شيخ الجامع بالباب يود لقاءهم لأمر هام. سمحوا له بالدخول و رحبوا به وبعض جلوسهم تحدث مباشرة قائلا: انا هدخل في الموضوع على طول يا حاج صفوان، بعد المصايب الي حصلت في البلد و طالت الكل أنا مسكتش و فضلت أدور و أحاول أوصل لحاجة و أعرف إيه السبب لغاية ما عرفته و إتأكدت كمان. يوم عزا المهندس مجدي شوفت الراجل الي سلم عليكم في العزا و شكله غريب عن البلد بس أما إتحققت من ملامحه أكتر عرفت هو مين.
” مين يا شيخ صادق؟ ” كان سؤال ثلاثتهم ليجيبهم: ده هارون بن يعقوب يا حاج صفوان فاكره؟ ابن المشعوذ الي جه البلد من خمسة و عشرين سنة و اسمه أبوشامة.. كان شيطان في هيئة بني آدم. دخل البلد على إنه راجل فقير و مبروك وشوية شوية استغل جهل الناس و بدأ يعمل ألاعيبه دي و كان فعلا والعياذ بالله بيستعين بالجان و الأعمال السفلية و السحر الأسود و أذى ناس كتير و عمل كتير في سبيل الفلوس و كان عاوز يسيطر عالبلد دي و ياخد خيرها.. بس والدك الله يرحمه مسكتش و هدده لو مرحلش من هنا هيبلغ عنه بس متعظش برده و زاد في شره و أذاه خصوصا بعد ما اتسبب في موت بنت من بناتهم كان عاوز يتجوزها و أما أهلها رفضوا أذاها و اتجننت و رمت نفسها في البحر.. بعدها البلد فاض بيهم اتجمعوا حوالين بيته هددوه يرحل مسمعش الكلام و الناس حرقت البيت وهو جواه وفضل يصرخ ويزعق ويقول
“لعنتي حلت عليكم يا بلد.. مش هتعرفوا الراحة أبدا… هييجي يوم و تدفعوا التمن كلكم”.. فضل يصرخ بالكلام ده لغاية النار ما كلت البيت كله و جثته كمان. الناس كانت فاكرة إنهم ارتاحوا كده أتاريه كان متجوز و مخلف و مخبي عيلته في بلد تانية وابنه رجع يكمل أذى أبوه.
كان صفوان يستمع لحديث الشيخ وهو شارد الذهن كأن ما سرده الآن يتجسد أمام عينيه.. طرق بعصاه الأرض و نهض من مكانه قائلا بعصبية: ” “الي حصل لأبو شامة زمان هيطول ابنه هو كمان و أي حد يفكر يأذي أهل البلد دي. اسمعني كويس يا شيخ صادق في الي هقوله و إنت كمان يافضل و حسان و مش عاوز كلمة من الي اتقالت هنا تخرج برانا… الي هيحصل الليلة……… ” و انتهي اجتماعهم و اتفاقهم على خير.
*********************
بعد منتصف الليل بقليل…
اجتمع أهل البلدة حاملين المشاعل حول منزل ذلك المدعو هارون و قاموا بإلقاء الحجارة عليه و صرخوا به ليخرج من البلدة بدلا من إحراقه حيا كوالده، لكنه كان أشد خبثا من والده و بشاعة فخرج عليهم وهو يتمتم بكلمات غريبة يبدو أن طلاسم و أشار بيده اتجاه الأرض فاشتغلت النيران حولهم و ارتفعت للسماء و اشتد الدخان الأسود يكاد يعمي العيون لكنهم لم يخافوا منه بل زادهم ذلك إصرارا على القضاء عليه و الشيخ صادق و معه مجموعة من المشايخ وقفوا بوجهه متماسكين يقرأون عليه آيات معينة من القرآن و يرددون عدة أذكار و يعلو صوتهم وهارون يصرخ يحاول أن يبقى صامدا أمامهم وكلما تحرك ارتفعت أصواتهم أكثر و النيران تلتهم المنزل فاجتمع عليه الناس يضربونه حتى لفظ أنفاسه و انتهى أمره. انطفأت النيران التي أشتعلها هارون و هدأ كل شيء تماما..
حمل بعض منهم جثته و أبعدوها عن البلدة نهائيا ودفنت في مكان بعيد تماما.
حمدا لله قد انتهى الكابوس و عاد كل شيء لطبيعته.. بعد عودة الجميع لمنازلهم و انتهاء تلك الأحداث التي حفرت في ذاكرتهم، دخل صفوان المنزل مع أشقائه و الشيخ صادق لتقابلهم فاطيما وهي تركض اتجاههم تحتضن صفوان و تضحك كعادتها سعيدة و ابتسامتها الساحرة تزين ثغرها، لينظر لهم متعجبا من حالتها التي تبدلت تماما وعادت لسابق عهدها معهم.. لتسألهم: معقولة تسيبوني نايمة كل ده يا جماعة مش عارفين إن عندي مشغل لازم أشغله و بنات هتدرب و بوتيك لازم نحضر الافتتاح بتاعه و كمان هنشتري لوازم كتير و لسه.. ولسه..
ليضحكوا عليها فتنظر إليهم و أردفت: ” معقولة مفيش سيولة معاكم و الا ايه؟ لالالا كده هتزعلوني أنا سيدة أعمال لسه بتبدا مشوارها معقولة تضيعوا استثماراتي في البلد.
ابتسم لها الشيخ صادق و همس لصفوان: الحمدلله ربنا زاح الغمة و تأثيره عليها راح بعد موته. و الي عدى كله مش هتفتكره كأنها كانت نايمة ولسه صاحية. يُستحسن بلاش حد يتكلم معاها فأي حاجة الفترة دي لغاية ما كل حاجة ترجع زي الأول.
شكره صفوان و طلب منه أن يعود مرة أخرى ليقرأ القران الكريم في المنزل و يحصن شقيقته.
***************
بعد مرور سنة تقريبا..
تم افتتاح المصنع و بدأ إنتاجه و المشغل أيضا كبر و زادت مساحته و عدد الفتيات اللاتي يعملن به و استطاعت فاطيما أن تحافظ على المشروع الخاص بها و تزيد من إنتاجه.
اليوم أيضا هو يوم مميز في حياة عائلة الناجي فهو زفاف الفتاة المدللة أو سيدة الأعمال الصغيرة ما تحب أن تلقب به، فقد تقدم لها أستاذها في الجامعة و اليوم زواجهما و قد عادت الأفراح أخيرا تسود البلدة الصغيرة بعد عناء.
****************
بعد مُضي عشرة شهور أخرى تعالت صرخات طفل صغير تبشر بانضمام حفيد جديد لعائلة الناجي لأبويه فاطيما و سعد.